الثلاثاء، يوليو 20، 2010

حليب أمي ... أسود


كنت في يوم ليس ببعيد, أقود سيارتي الجيب الفارهة قاصدا مخيم للأصدقاء بالقرب من مركز أبو الفوارس الحدودي, وبما أن علاقتي بفن القيادة في الصحراء لا يتعدى علاقتي برياضة الكريكت, " غرز الموتر" ولم أستطع أن أخرجه من مستنقع الرمال ذاك, فهممت بالسير إلى المركز لطلب المساعدة. كنت أسير في جو غائم ممطر تضيء به البروق , جو تتمنى أن الأربع فصول تتخذه خليلا لها.
وفجأة وبلا مقدمات, انبعث صوت من العدم يقول توقف يا ولد, فاستجمع ما تبقى لي من شجاعة وأقول أنا ولد؟؟؟؟ فإذا بنفس الصوت الذي يبعث في النفس الرهبة والطمأنينة في نفس الوقت, يرد علي ويقول, نعم يا ولد فأنا شهدت ولادتك وأنشأتك وأرضعتك من أعز ما أملك. فأرد وقد بدأت تتسابق دموعي وأقول ما أعذب صوتك يا أرض وطني, وأسأل منذ متى وأنت تتكلمين, فتجاوبني بقولها منذ زمن بعيد ولكنكم أغفلتم حتى سماعي.
ماذا تريدين مني يا أغلى ما خلق الله من تراب, أسألها وفي صوتي نبرة غريبة لم أسمعها من قبل, فترد علي وتقول:
" اذهب يا ولد وأبلغ إخوتك بالوطن بأني لم أختزل عصارة معدتي, وأتحمل المناخ القاسي, وتتقشر وتتشقق بشرتي حتى أصبحت شائكة بالعرفج والعوسج بعدما كانت تزهى بالخزامى والنفل, لأسقيكم من حليبي الأسود الذي مزجته بين حبات ترابي بعرق و دم أجدادكم, إلا لكي أراكم اليوم قد تسيدتم الأمم.
لكن وبكل الأسى , أراكم اليوم قد أصبحتم شعوبا وقبائل تتناحرون على ما أورثتكم إياه. كثيركم يشكو الضنك والعدم, وقليلكم يشكو الترف وانبطاح الهمم, لا يخاف منكم أحد وتخافون كل الأمم, حتى أصبح الغريب يأتي ويشتري منكم الذمم.
اذهب وذكر العصاة من أبنائي بأني أمهم الشرعية ولست مرضعة استأجروها ليشربوا حليبها فينسوها. أبلغهم بأني أم لكل من جبل على حبي وذاد عني وبذل النفيس والغالي لأجلي, بكل ألوانهم وأطيافهم هم أبنائي, لا فرق عندي بينهم ولكل منهم حق في حليبي الذي وهبني الخالق. اذهب وقل وردد عني بأني أمكم فأحسنوا إلي قبل أن يأتي يوما تذوقون فيه عذابي, فأجفف عنكم صدري وأرفع عنكم ستري وأترككم فرائس سهلة لأمم قد أحسنت لأوطانها".
فإذا بمنبه جهازي النوكيا القديم يوقظني بصوته المزعج وكعادته اليومية في السادسة صباحا. يذكرني الذهاب للعمل الكئيب ويأذن ببداية يوم جديد رتيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق